اكتشاف خلايا منتجة للأجسام المضادة داخل الأنف
الأنف هو البوابة الرئيسية لأجسامنا، للهواء الذي نتنفسه، والروائح التي نشمها، والميكروبات التي تجعلنا مرضى.
وفي طريقه إلى الداخل، يمر الهواء عبر محارات الأنف، أو المحارات الأنفية، وهي الأرفف الطويلة الضيقة الملتفة من العظام التي تبدو وكأنها صدفة وتبرز في مجرى التنفس.
تُغطى المحارات بنوع فريد من الأنسجة يفرز المخاط ويحتوي على العديد من فروع الخلايا العصبية المسؤولة عن حاسة الشم.
تسمح بنية المحارات ووظيفتها للهواء بالدفء وامتصاص الرطوبة قبل الوصول إلى الرئتين.
لا تعمل محارات الأنف كموقع رئيسي لغزو مسببات الأمراض للمجاري الهوائية فحسب، بل إنها تعاني أيضًا من نقطة ضعف رئيسية: نظرًا لوقوعها بالقرب من الدماغ، فإنها لا تصل إليها الأجسام المضادة التي يرسلها جهاز المناعة لدينا عبر مجرى الدم أثناء عدوى مجرى الهواء العلوي.
كيفية الوقاية من الميكروبات الغازية
وهنا يبرز السؤال: كيف إذن نكون محميين نسبيًا من الميكروبات الغازية ولا نمرض باستمرار؟
في دراسة جديدة نشرت اليوم في مجلة Nature، اكتشف باحثون من معهد وايزمان للعلوم أن الخلايا المفرزة للأجسام المضادة تهاجر إلى محارات الأنف كلما مرضنا أو تلقينا تطعيمًا، ومن هناك تفرز الأجسام المضادة محليًا في تجويف الأنف.
قد يمهد هذا الاكتشاف الطريق أمام لقاحات أنفية أكثر فعالية وعلاجات جديدة لاضطرابات الجهاز العصبي والحساسية وأمراض المناعة الذاتية.
خلال جائحة فيروس كورونا، عندما كان الفيروس ينتشر في جميع أنحاء العالم، كان ملايين الأشخاص يراقبون عن كثب تطوير لقاح كوفيد-19 الذي يمكن إعطاؤه على شكل رذاذ أنفي بدلًا من الحقن. لم تكن الفكرة غريبة؛ ففي نهاية المطاف، يتوفر لقاح الإنفلونزا والعديد من اللقاحات الأخرى بالفعل من خلال رذاذ الأنف، الذي يحتوي على فيروسات حية ولكنها ضعيفة تولد حماية محلية في محارات الأنف.
ومع ذلك، فإن هذه اللقاحات الأنفية ليست فعالة في جرعة واحدة ويجب أن تتبعها جرعة معززة. ومع ذلك، لا يفهم العلماء بعد بشكل كامل كيف تعمل هذه اللقاحات الأنفية ولماذا تكون الجرعة المعززة ضرورية.
ولإلقاء الضوء على هذه المسألة، قرر البروفيسور زيف شولمان من قسم المناعة في وايزمان وجينغجينج ليو، طالب الدكتوراه في مختبره، فحص كيفية استجابة أعضاء الجهاز المناعي الموجودة بالقرب من الأنف والحنجرة للتطعيمات الأنفية، وفي البشر، تشمل هذه الأعضاء اللوزتين والغدد اللمفاوية، والمعروفة مجتمعة باسم حلقة فالدير الليمفاوية، أو حلقة اللوزتين.
في هذه الدراسة الجديدة، استخدم فريق من الباحثين، بقيادة ليو، تقنيات التصوير المتقدمة لتحليل الاستجابة المناعية للجسم من خلال تصوير أعضاء الجهاز المناعي الكاملة والسليمة للفئران، على غرار تلك الموجودة لدى البشر.
اكتشف الباحثون أنه عندما تم إعطاء الفئران لقاحًا عن طريق الأنف، تم إطلاق استجابة مناعية مركزة بواسطة الخلايا البائية، وهي المنتج الرئيسي للأجسام المضادة في الجهاز المناعي.
تبدأ هذه الخلايا رحلتها كخلايا بائية سابقة، وبعضها لديه القدرة على تحديد مسببات الأمراض.
وشاهد العلماء كيف أن الخلايا الموجودة بالقرب من الأنسجة المخاطية التي تغطي تجويف الأنف تعرفت على جزيئات اللقاح وبدأت بالانقسام والتمايز بسرعة.
ويمكن النظر إلى عملية التمايز هذه على أنها نوع من دورة التخصص البيولوجي، والتي تنتهي عندما تصبح خلايا تفرز أجسامًا مضادة خاصة بالممرض أو تصبح خلايا ذاكرة.
يتم تخزين خلايا الذاكرة لفترات زمنية طويلة في حالة الإصابة في المستقبل.
إفراز الأجسام المضادة
تستطيع الخلايا البائية إفراز خمسة أنواع من الأجسام المضادة.
واكتشف الباحثون أنه استجابة للقاح، تغير الخلايا البائية القريبة من تجويف الأنف هوية الجسم المضاد الذي تنتجه وتبدأ في إفراز أجسام مضادة تعمل كـ "حراس" متخصصين في المرور من الأنسجة المخاطية الداخلية إلى تجويف الأنف.
وتتمثل المرحلة التالية في انتقال الخلايا البائية من موقعها القريب من تجويف الأنف إلى "معسكرات تدريب" صغيرة، تُعرف بالمراكز الجرثومية، والتي توجد في أعضاء الجهاز المناعي في ذلك الجزء من الجسم، وبمجرد وصولها إلى هناك، تخضع "للتدريب" الذي يشمل تغييرات في تركيبتها الجينية وعملية اختيار دقيقة لضمان بقاء تلك الخلايا البائية التي تنتج الأجسام المضادة المرتبطة بشكل فعال بمسببات الأمراض المستهدفة بواسطة اللقاح.
وتساعد الخلايا البائية في خطة التدريب هذه نوع معين من الخلايا التائية، التي تلعب دورًا أيضًا في تحديد الخلايا التي ستبقى على قيد الحياة في النهاية، لكن الباحثين اكتشفوا أنه لا يوجد ما يكفي من هذه الخلايا التائية في أعضاء الجهاز المناعي في ذلك الجزء من الجسم لإنشاء استجابة مناعية فعالة.
ويوضح شولمان قائلًا: "إن حقيقة ضرورة هجرة الخلايا التائية إلى المنطقة تفسر لماذا لا تكفي جرعة واحدة من اللقاح الأنفي، بل يلزم إعطاء جرعة معززة، ولا يتم إنتاج ما يكفي من الخلايا التائية المطلوبة لتحويل الخلايا البائية إلى منتجين فعالين للأجسام المضادة وإلى خلايا ذاكرة إلا بعد الجرعة الثانية".
ويعتقد الباحثون أن ندرة الخلايا التائية مصممة لمنع الحساسية المفرطة لكميات غير ضارة من الأجسام الغريبة في الهواء.
ويضيف شولمان: "من الممكن أن تتعطل هذه الآلية عندما يصاب الناس بالحساسية وأمراض المناعة الذاتية المختلفة، لذا فإن فهمها قد يساعد في تطوير علاجات جديدة لهذه الحالات".
البحث عن كنز التحصين
إن اكتشاف أن آلية المناعة تم تنشيطها استجابة للقاحات لم يكن سوى نقطة البداية لبحث مكثف لتحديد المكان الذي تذهب إليه الخلايا المفرزة للأجسام المضادة بعد اكتمال عملية التمايز.
يقول شولمان: "لقد تصورنا استجابة مناعية في العقد الليمفاوية الأنفية، ولكن كيف تترجم هذه الاستجابة إلى حماية مجرى الهواء؟ لقد فوجئنا باكتشاف الخلايا البائية في محارات الأنف، وهي أنسجة عظمية لم يكن معروفًا أنها تدعم الاستجابة المناعية بوساطة الأجسام المضادة".
وأضاف: "إن هذا الانتقال إلى أنسجة العظام يشبه ما يحدث في نخاع العظام، ومن الممكن أن يكون لهذه البيئة المتخصصة أدوار أخرى تتجاوز الآلية المناعية التي حددناها".
وتُظهِر النتائج الجديدة أن الخلايا المفرزة للأجسام المضادة تنتقل من العقد الليمفاوية الأنفية إلى الغدد المنتجة للمخاط في محارات الأنف، أسفل طبقاتها الخارجية من الخلايا مباشرة، وأنها تفرز أجسامها المضادة في هذه الغدد.
يعوض هذا الدفاع المناعي عن عدم قدرة الأجسام المضادة في الدم على الوصول إلى هذه البوابة عبر مجرى الدم، وهو أمر مهم ليس فقط في سياق الفيروسات والأمراض الأخرى: فهو يحمي أيضًا الدماغ والعديد من النهايات العصبية في ذلك الجزء من الجسم، والتي هي المسؤولة عن حاسة الشم لدينا.
وبالإضافة إلى تسهيل تصميم اللقاحات، يشير شولمان إلى أن هذا البحث كشف عن "نقطة دخول إلى هدف محصن للغاية ــ الخلايا المفرزة للأجسام المضادة التي لديها القدرة على الوصول إلى الجهاز العصبي المركزي".
في المستقبل قد يكون من الممكن الاستفادة من قدرة الخلايا المفرزة للأجسام المضادة على الوصول إلى الأعصاب الشمية من أجل تصميم لقاحات للأمراض العصبية.